أحوال شخصية صرخة فنية أنثوية ضد تسلط المجتمع الذكوري

جريدة مسرحنا العدد 553 صدر بتاريخ 2أبريل2018

http://www.gocp.gov.eg/Masr7na/articles.aspx?ArticleID=10540

أحوال شخصية صرخة فنية أنثوية ضد تسلط المجتمع الذكوري

العدد 553 صدر بتاريخ 2أبريل2018

بقلم

أحمد محمد الشريف

لحظات صغيرة مريرة قد تسرق عمرا بأكمله, فتتحطم آمال وأحلام الأنثى على شواطئ واقع أليم ومرير، وتجد الفتاة نفسها قد تحولت إلى مجرد مانيكان بلا حياة، عليها أن تحيا بشكل إلى دون استجابة أو رد فعل بل دون فعل أصلا أو مشاعر، كل من حولها يتحكم فيها كما يشاء، فتعيش الأنثى بين همومها وأحزانها، تجتر وحدتها في داخلها، يرقد بركان ضخم من المشاعر والأحاسيس لا ينطفئ يجيش بها صدرها، بسبب تقاليد وأعراف بالية في مجتمع اعتاد ممارسة القهر والظلم للمرأة لمجرد فقط ضعفها وعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها، تظل الأنثى طوال عمرها تبحث عن الأمان وعمن يحتويها ويسمعها ويحقق طموحاتها وأحلامها، لكنها للأسف في غفلة من الزمن تصبح كائنا إما من عدم وإما من حجر ليس لها أي حقوق أو متطلبات وفقط عليها الانصياع والطاعة.
أحوال شخصية معقدة ومركبة يناقشها عرض مسرحية (أحوال شخصية) الذي يعرضه مسرح الشباب التابع للبيت الفني للمسرح على خشبة مسرح ملك، من تأليف وأشعار ميسرة صلاح الدين وإخراج أشرف حسني، حيث يبدأ العرض بغرفة للمانيكان في متجر كبير للملابس، فيستعرض من خلال أربعة مانيكانات رغبتهن الرغبة في الهروب بعد انتهاء مواعيد العمل وإغلاق المتجر، والتحرر من قيود حياة المانيكان المتجمدة التي بلا روح، فنستشعر هنا التمازج الذكي للمؤلف بين تلك الكائنات الصماء من الخارج وبين وضعية الأنثى في المجتمعات التقليدية التي لا تعرف سوى قهر المرأة وإذلالها، من خلال بث الحياة مؤقتا في المانيكانات لتسرد كل واحدة منهن قصتها الواقعية التي أدت بها إلى هذا المصير المحزن، فيضعنا المؤلف أمام تشبيه قوي لدلالة تطابق شخصية المرأة المقهورة بشخصية التمثال الذي ليس عبارة إلا عن جسد بلا روح، فتبدأ أولى الفتيات بسرد ما واجهته من مشكلات في القرية التي نشأت بها في الصعيد من اضطهاد وذل وقهر من أهلها وتقاليد المجتمع البالية والحرمان من الميراث والتفريق في المعاملة بين الذكر والأنثى وحقها في التعليم كأخيها الولد وما إلى ذلك من مشكلات المرأة في الجنوب، حتى يساعدها أبوها في الحصول على حقها في الميراث ثم يدفعها للهروب من ثورة أهل القرية عليهما. أما الفتاة الأخرى من الوجه البحري، بالتحديد من طنطا، وتحكي عن مأساتها مع الرجل الكبير في السن الذي تزوجها وهي صغيرة وقتلته بطريق الخطأ في ليلة زفافها واضطرت للهروب، ثم تروي الثالثة قصة طموحها بعد تخرجها من كلية الحقوق ورغبتها في العمل وإثبات وجودها كسيدة فاعلة في المجتمع لكنها واجهت ذلك بالقهر من زوجها الذي رفض عملها وفرض عليها تفرغها لتربية الأطفال ولخدمته في المنزل حتى تاهت بها السنون وطلقت بسبب اكتشاف زوجها أنها ادخرت أموالا دون علمه، والأخيرة التي قادها طموحها أو بالأصح طمعها الزائد إلى سوء معاملة أمها لإرضاء زوجها حتى تسولت الأم في الشوارع ثم ماتت الأم وفقدتها إلى الأبد.
تجتمع هنا عدة حكايات للمرأة لتعبر بها عن ثورتها ضد الاضطهاد، من خلال رؤية موسيقية غنائية خفيفة وممتعة لحازم الكفراوي بالآلات الحية والغناء الحي سواء بالصوت الجميل للمطربة بسمة البندراوي أو من ممثلات العرض، فأضفت جوا من التلاحم والحميمية بين الشخوص والمتفرجين، ما بين آلات وإيقاعات شرقية وألحان ذات طابع غربي، وكانت الموسيقى ملازمة لحالة المسرح طوال العرض عبارة عن موسيقى تصويرية تأثيرية مباشرة. وجاءت الأشعار الرائعة معبرة ومؤثرة سواء التي وضعها المؤلف ميسرة صلاح الدين أو التي أهداها الشاعر أيمن النمر حيث كتب أغنيتين هما (مانيكان)، (كل يوم باسمع كلام).
بدأ العرض بتأكيد إشراك المتفرجين في الأحداث بطلب إحدى الممثلات غلق الباب الخلفي للجمهور حتى يشترك الجميع ولا يخرج أحد، ثم بداية دخول إحداهن من بين مقاعد الجمهور، وتكرر نزول الممثلات للصالة في المونولوجات بالإضافة لوجود الفرقة الموسيقية بجانب الجمهور، مما يؤكد فكرة إسقاط الأحداث لكل متفرج أو متفرجة على حياته الشخصية لأن هذا هو ما يواجه الجميع ونعيشه يوميا في حياتنا الخاصة.
من خلال ديكور بسيط ثابت، صممه أحمد إسلمان، يحمل تفاصيل غرفة بمحل ملابس مانيكانات وفتارين وشماعات وملابس مدلاة من السقف وبعض شابوهات مضاءة قد تكون للتجميل الشكلي أو للدلالة والتأكيد على فكرة أن المرأة يتعامل معها المجتمع كمجرد شابوه للتزيين دون أن يكون لها دور حقيقي في المجتمع، واحتوى الديكور على حوائط تعبر عن غرفة المحل بتشكيلات مستطيلة بخطوط هندسية حادة تعبر عن الجمود، كما جاء استخدام المخرج للفتارين المتحركة، كل فاترينة بحجم صغير يكفي مانيكان واحد، حيث تنتقل على عجل ويتحركن بها الممثلات طوال العرض ما بين الحكي والغناء والرقص وتختلف وضعيات الفتارين حسب الحالة والتشكيل المطلوب للتعبير عن الحالة من وجهة نظر المخرج. وقد وضع المخرج في الخلفية شاشة فيديو بروجيكتور استعرض فيها بعض المناظر الحية لمادة فيلمية من إعداد محمود صلاح، مرة لوصف شكل المحل من الخارج أي من الشارع وأخرى لسرد معلومات عن قرية ملوي التي تنتمي غليها إحدى شخصيات العرض، وهكذا استخدمها أكثر من مرة لبيان حالات مختلفة أثناء سير الأحداث، دون داع أو تأثير يذكر.
اعتمدت الدراما على أسلوب المونولوج الذي تسرده كل شخصية من الشخصيات الأربع، فابتعدت عن التقليدية في صنع بداية ووسط ونهاية وإن حاول المؤلف ذلك برصد محاولة الهروب في البداية لتقديم حدث أو فعل ما، إلا أنه نسي أو ترك هذا الخيط تماما وأهمله بمجرد بدء الشخصيات في تشخيص المونولوجات، لدرجة أنه أنهى العرض فجأة بمجرد نهاية المونولوج الأخير دون تصور تصعيد لنهاية حدث فشل الهروب المفتعل في البداية. لكن ذلك لم يؤثر على متابعة الحدث حيث استعاض المخرج عن ذلك بالإيقاع السريع والتلاحق في السرد وبراعة التمثيل وروعة الغناء بالإضافة لتشكيلات الحركة المتنوعة التي رسمها المخرج وعلى الأخص تنوعها بالفتارين المتحركة. كما أن النماذج التي عرضها المؤلف قد جانبه التوفيق في توثيق الحبكة بها، حيث إن النموذج الثاني لفتاة طنطا هي ضحية لأمها التي زوجتها وهي قاصر ولم توضح لها ماهية الزواج حتى فوجئت بطقوسه وهي طفلة فارتكبت جريمتها، والنموذج الثالث للمحامية إنما هي كاذبة وخدعت زوجها مرتين الأولى عندما أوهمته بموافقتها على شروطه للزواج والثانية عندما خدعته ولم تكن أمينة على أمواله، والنموذج الأخير قادها الطمع والأنانية لدرجة سوء معاملة أمها، فهذه النماذج الثلاث لم تكن ضحايا مجتمع كما يفترض المؤلف.
أما الإضاءة لعز حلمي فقد كانت من العوامل المؤثرة في العرض، بالتنوع وخلق حالات نفسية مختلفة بألوان الإضاءة وتوزيعاتها في المشاهد لا سيما مع المونولوجات واستخدام إسقاطات رأسية بألوان خاصة لتعطي التأثير الدرامي اللازم وكذلك الإضاءة الأمامية من مقدمة الخشبة التي أعطت تأثيرا قويا لحالة التشخيص المصاحبة لها.
منافسة قوية في التمثيل بين الممثلات الأربع، حالة رائعة لكل منهن في دورها، عبير الطوخي موهبة متميزة تمتلك الخبرة والتمكن في الأداء في دور المحامية، ندا عفيفي حضور قوي وتنوع في الأداء في دور فتاة الصعيد، راماج أجادت وتمتعت بخفة ظل في ابنة طنطا، لمياء جعفر استطاعت أداء دور الأرستقراطية الكذوبة ببراعة، والمفاجأة الأكبر والأروع الصوت الرائع للمطربة بسمة البندراوي التي أشجت الجميع وعبرت بصدق عن كل الحالات الدرامية أثناء العرض لا سيما بمصاحبة الجيتار.
عاد بنا المخرج في العرض للحظة البداية حيث تعود كل واحدة منهن إلى مكانها في الفاترينة الخاصة بها في وضع الجمود أو الموات، بلا حياة بلا روح، في دائرة لن تنتهي، تعبيرا عن شدة قسوة المجتمع تجاه المرأة، حيث وضع أمامنا هنا عدة جوانب تعاني منها الأنثى في مجتمعاتنا الشرقية عموما وبالأخص في الأماكن القبلية والبدوية والريفية منها وهي مشكلات الحق في الإرث والحق في التعليم والحق في العمل بحرية وزواج القاصرات، تلك المشكلات التقليدية المكررة، تعبر عن مجتمع يحمل تفكيرا ذكوريا متسلطا، وهذا العرض يحمل صرخة ويسلط الضوء لتنبيه الجميع نحو ضرورة تغيير الوضع وإلقاء التقاليد البالية أرضا لتحقيق التنمية والتقدم للمجتمع.
أحوال شخصية في مجمله عرض جريء ومحاولة جيدة تحمل فكرا متقدما بأسلوب ممتع ورشيق، تحية لمخرجه ومؤلفه وأبطاله وللفنان عادل حسان مدير مسرح الشباب في باكورة إنتاجه نحو توجه أفضل لمسرح يهتم بمشكلات وقضايا الشباب.

 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial
error

انبسسطت ؟ ادعمنا بـ ليك وشير بقى

RSS
YouTube
YouTube
fb-share-icon
Instagram
WhatsApp
FbMessenger